إختر الترجمة

دور الاعلام في الوقاية من الجريمة والانحراف/ المهندس أحمد ولد العالم





مقدمة:
نعيش في هذه الآونة عصرا صار الإعلام فيه ضرورة من ضروريات الحياة نتيجة الثورة الإعلامية الكبيرة التي أثرت على المجتمع بشكل كبير وفرضت أنماطا جديدة من السلوكات على الأفراد لم تكن معهودة من قبل، الأمر الذي زاد من تعقد الحياة وتنوع العلاقات بين الأفراد والمؤسسات الاجتماعية الأمر الذي يستدعي إعلاما أمنيا يواكب تطورات العصر ومستجداته، وحتى تساهم وسائل الإعلام بصفة عامة والإعلام الأمني بصفة خاصة في العمل على الحد من الجريمة والوقاية منها، عليها أن تقوم بواجباتها في التنشئة الاجتماعية السوية الهادفة لأفراد المجتمع، ونشر الوعي الأمني بين الجماهير والعمل على التصدي لثقافة الجريمة في المجتمع.
غير أن الملاحظ في هذه الأيام انتشار الأفلام والمسلسلات التي تتسم بالعنف وتصور أبطال أفلام أسطوريون لا يهزمون ولا يموتون ومن جانب آخر تظهرهم على أنهم يتعاطون المخدرات ويحتالون ويسرقون ويقتلون... هذه البرامج أصبحت مدعاة للتقليد والمحاكاة خاصة في أوساط الأطفال والشباب الذين هم أكثر تأثرا بهذه المظاهر حيث يعتقدون أنهم إذا قلدوا تلك القصص والروايات انتقلوا إلى حياة السعادة والرفاهية كما هو مروج له في وسائل الإعلام، والحال ليس بغريب عن الصحافة التي تنشر قصصا وروايات عن بعض الجرائم في الجرائد والمجلات وظروف حدوثها وتنشرها في قالب درامي مشوق ليزداد مقروئيتها، وهذا ما من شأنه أن يزيد من انتشار الجرائم داخل المجتمع باعتبارها شيئا مألوفا يقرؤون عنه في كل يوم.
1.الإعلام والعنف والجريمة:
فوسائل الإعلام خاصة المرئية منها أصبحت تنتج الجريمة والعنف بمختلف أشكاله، لذلك أجري عدد هائل من الدراسات والبحوث لتقييم آثار البرامج التلفزيونية، وعني أكثر هذه البحوث بآثار مشاهد التلفزيون على الأطفال وانعكاسات ذلك على التنشئة الاجتماعية في المراحل الأولى من العمر، وتدور هذه الدراسات بصورة عامة على محورين أساسيين هما آثار التلفاز على مستوى الجريمة والعنف، وطبيعة التغطية الإخبارية، ولا شك أن تواتر العنف في برامج التلفاز المنتجة في الغرب قد أصبح مدعاة للقلق في جميع الأوساط الاجتماعية في العالم. [1،ص508]
إن مناقشة موضوع العنف عبر وسائل الإعلام بدأت في أواخر الخمسينات من القرن المنصرم بجلسات عقدها الكونجرس الأمريكي لمحاولة معرفة مدى تأثير العنف المعروض عبر وسائل الإعلام المرئية وتأثيراته على المتلقين. وفي الستينيات من القرن المنصرم نبهت لجنة إيزنهاور إلى أن العنف الإعلامي عامل مساهم يساعد إلى حد كبير على نمو ثقافة العنف بين شرائح المجتمع، وفي سنة 1972 صدر تقرير عن وزير الصحة الأمريكي يُظهرُ قلقاً حول تأثير عنف التلفزيون على الأطفال وتغيير أنماط سلوكهم.
وفي الثمانينيات أصدر المعهد الوطني الأمريكي تقريره الذي خلص إلى نفس نتائج تقرير وزير الصحة الصادر في 1972، أما التقارير اللاحقة في التسعينيات الصادرة عن الجمعية النفسية الأمريكية والجمعية الطبية الأمريكية والأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال، خلصت لنفس النتائج السابقة و نبهت بشكل عام إلى أن العنف عامل يساعد على نمو ثقافة العنف في المجتمعات، وخلال هذه الفترة الزمنية والتي دُرست فيها ظاهرة العنف الإعلامي في أمريكا وحدها - يمكن تلخيص ثلاثة تأثيرات رئيسية يتأثر بها المتلقي كنتيجة للعنف الإعلامي هي : العدوان وعدم الإحساس والخوف.
واللافت للأنظار أن موضوع العنف المعروض عبر نشرات الأخبار لم يخضع للدراسة بشكل كافٍ، ويمكن القول إن أول اهتمام بموضوع العنف في نشرات الأخبار كان في كتاب تضمن تقريرا جرى إعداده بطلب من وزير الثقافة الفرنسي "جان جاك اياغون" وساهم فيه عدد مهم من الاختصاصيين في ميدان الإعلام المرئي من* علماء نفس واجتماع ومحاميين وغيرهم في هذا الجانب.
وكانت الملاحظة الأولى التي تم التأكيد عليها والانطلاق منها في التقرير تتمثل في الاعتراف بتعاظم ظاهرة العنف في مختلف قطاعات المجتمع الفرنسي.. وفي مواجهة مثل هذا الواقع أكد وزير الثقافة الفرنسي في رسالته للجنة المكلفة بإعداد هذا التقرير الذي يتمحور حول العنف في وسائل الإعلام المرئية أكد أن النضال ضد جميع أشكال العنف ورفض كل أشكال التمييز والبغض، أمور في صلب ميثاقنا الاجتماعي، لذلك ينبغي علينا جميعاً- وفي ظل ثقافة تهيمن عليها الصورة- إعادة النظر فيما يتم تقديمه بصورة شبه متواصلة من مشاهد عنيفة أو عدوانية لها تأثيرها على عقل المتلقين الأكثر شباباً.
*وبدأ واضعو هذا التقرير بطرح بعض التساؤلات الجوهرية حول الآثار الاجتماعية والنفسية و السياسية لتعاظم جرعة العنف في البرامج المرئية بما في ذلك نشرات الأخبار. وهذه أول إشارة مباشرة لأهمية دراسة موضوع العنف في نشرات الأخبار. وانطلاقا من هذه الإشارة حضي موضوع العنف الإخباري باهتمام كبير من قبل العديد من الخبراء والصحفيين والمسئولين الإعلاميين* في بعض وسائل الإعلام العالمية المشاركين في القمة العالمية لمجتمع المعلومات الذين أكدوا على أهمية التمييز بين مصطلحين هما: ( العنف الترفيهي والعنف الإخباري)، وأكدوا أيضاً على أن مفهوم العنف الإخباري لم يخضع للدراسة بشكل علمي.

وقد حللت بعض الدراسات نماذج مما يعرض في الولايات المتحدة من مسلسلات وتمثيليات خلال عدة سنوات متتالية بعد عام 1967، وتعرف هذه الدراسات العنف بأنه استخدام القوة الجسدية أو التهديد باستخدامها ضد النفس وضد الآخرين وما ينتج عن ذلك من الإيذاء الجسدي أو حالات الوفاة واكتشف الباحثون أن80% من مجمل البرامج تتضمن مستويات متفاوتة من العنف والجريمة بمعدلات تقرب من 8 حوادث كل ساعة، وتعلوا هذه النسب في برامج الأطفال، رغم انخفاض حالات القتل والوفاة فيها، بل إن أعلى مستويات العنف تتمثل في مسلسلات الكرتون الموجهة للأطفال، أما أثر هذه البرامج فعلى الجمهور عموما، وعلى الأطفال بصورة خاصة ، وهذا ما توصل إليه "بيير بورديو" حين قال أن التلفزيون يمارس جملة من الإكراهات على الأفراد والمجتمع فيها نوع من اللباقة واللطف والخفاء C’est une violence cachée, déguisée et voilée وهذا ما يسميه بالعنف الرمزي [2،ص339]
وتشير 67 دراسة أجريت بين عامي 1956 و1976 إلى وجود رابطة قوية واضحة في 75% من الحالات بين مستوى العنف في هذه البرامج من جهة وبروز النزعة العدوانية بين الأطفال من جهة أخرى، وفي 20 % من هذه الحالات لم يجد الباحثون مثل هذا الترابط بصورة واضحة، بينما اتضح في 3% منها أن مشاهدة برامج العنف تقلل من النزعة العدوانية عند الأطفال، وترى دراسة أخرى أن كثير من البحوث لا تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المعقدة للعمليات العقلية لدى الأطفال، إن استجابة الأطفال للبرامج التلفزيونية لا تقتصر على التقاط مضمونها وتسجيله في أذهانهم بل إنهم يتجاوزون ذلك إلى قراءة محتويات البرامج وتفسير ما يشاهدونه، وتلاحظ هذه الدراسة أن الأطفال حتى في مشاهدتهم لأتفه التفاصيل، فإنهم يربطون ما يشاهدونه بمنظومة من المعاني وال مواقف التي تولدت في نفوسهم بفعل التنشئة الاجتماعية.
والحال ليس بغريب عن مجتمعنا الجزائري حيث انتشر في الآونة الأخيرة خبر وفاة طفلين في حادثتين منفصلتين، الأولى بولاية تيزي وزو حيث أن طفل يدرس في المرحلة الابتدائية كان يحب كثيرا الفيلم الكرتوني "المحقق كونان" الذي يعرض على قناة "سبيس تون" وفي أحد المشاهد رأى إحدى شخصيات الفيلم وهو يضع حبلا حول عنقه وينتحر ثم بعد فترة يعود للحياة وهو أكبر وأقوى من ذي قبل، فتأثر الطفل بذلك المشهد وأخبر زملاءه في المدرسة أنه سيقوم بعمل لم يسبق له مثيل، وقام بتوديع جميع زملائه في المدرسة واحدا واحدا وهو يقول لهم انتظروني... سأعود ولم يفهم أحد قصده حتى وجد معلقا بحبل ملفوف حول عنقه داخل المنزل.
أما الثاني فهو يدرس في المرحلة المتوسطة وكان يتابع مع أفراد أسرته مسلسل تركي، وكان متأثرا كثيرا بإحدى شخصيات ذلك الفيلم، وفي إحدى الحلقات قام تلك الشخصية بالانتحار، حيث ربط حبلا على شجرة ووضع عدة آجورات وصعد عليها ثم لف الحبل حول عنقه ركل الآجورات وانتحر، فتأثر الفتى كثيرا بوفاة تلك الشخصية المزعومة، ولم يصدق أنه توفي لذا قرر التجريب ليتأكد بنفسه فذهب إلى شجرة قريبة من بيتهم وربط حبلا في الشجرة ووضع عدة آجورات تحت الحبل ثم صعد عليها ولف الحبل حول عنقه كما رآه في المشهد وركل الآجورات، وبعد فترة وجدته أمه جثة هامدة معلقة في الشجرة.
لقد أصبح الإعلام اليوم يساهم مساهمة كبيرة في نشر الجرائم داخل المجتمع خاصة في أوساط الأطفال والشباب حيث يذهب العديد من الأفراد يوميا ضحية العنف والإجرام الذي يقدمه التلفزيون للمشاهد العزيز في قالب دراماتيكي سينمائي يؤثر كثيرا في شخصية الفرد ثم يعيد ذلك الشخص إنتاج ما تعلمه عن طريق التعلم والتقليد فيتحول المشهد إلى مأساة حقيقية يدفع ثمنها الأفراد والأسر والمجتمع عموما.[3،ص124]
2 تفسير العنف الإعلامي من خلال نظرية التعلم للعالم ألبرت باندوراAlbert Bandura :
يري العالم النفساني ألبرت باندورا أن السلوك العدواني والعنيف هو سلوك متعلم من خلال مشاهدة نماذج منه عبر وسائل الإعلام والأسرة والأقران، وتعد وسائل الإعلام حسب هذه النظرية من أهم مصادر اكتساب السلوكات العنيفة لدي الطفل حيث يتأثر الأطفال بما تبثه وسائل الإعلام من مشاهد عنيفة حيث يقوم بإعادة إنتاج ذلك السلوك العدواني إما على ذاته أو أقرانه عن طريق التقليد.
وعليه تؤكد هذه النظرية أن المشاهد لوسائل الإعلام المرئية لديه القدرة وإمكانية لتعلم السلوك العدواني من خلال ما يعرض من مضامين وبرامج وأن المشاهدة تزيد من احتمال تعلم السلوك المنحرف، ويؤكد أصحاب هذه النظرية أنه باستطاعة الفرد تعلم وتقليد سلوك الشخصيات العدوانية التي تقدم له نماذج ليقتدي بها وتوفر فرص تعلم السلوك العدواني [4 ص24].
وبما أن النظرية تؤكد أن السلوك يتم تعلمه بالتقليد والتعلم الاجتماعي، فإن هناك أربعة مفاهيم أساسية يجب توافرها حتى تتم عملية تقليد السلوك[5] (ص99):
1) الانتباه والاهتمام، إذا كنت تريد أن تتعلم شيئا، فلابد أن تكون مركزا اهتمامك عليه.
2) القدرة على الاحتفاظ والتذكر، حيث لابد أن يكون لدى الشخص المقدرة على الاحتفاظ والتذكر لكل ما شاهده من سلوك، سواء كان على شكل صورة ، أو كان باستخدام اللغة.
3) إعادة تأدية السلوك، وهي الترجمة الحقيقية لعملية الاهتمام والاسترجاع إلى سلوك حقيقي، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الشخص يمتلك المقدرة على القيام بهذا الأداء وتطويره باستمرار إلى درجة التقليد الحقيقي والفعلي للسلوك المشاهد السلوك.
4) الحافز أو الدافع، حيث لن تنجح جميع الخطوات السابقة، إلا إذا امتلك الشخص الحافز الصادق لتقليد السلوك.
ووجد باندورا في دراسته للسلوك العدواني في عينة من الأطفال أنه (السلوك العدواني) غالبا ما يرتبط بالمثير أو المنبه الذي يتعرضون له، فبعض هؤلاء الأطفال لديهم آباء يعاقبونهم، عندما يظهرون العدوان نحوهم، وفي نفس الوقت يرتكب هؤلاء الآباء سلوكيات عنيفة مميزة، ويشجعون أبنائهم على ارتكاب مثل هذه السلوكيات مع أقرانهم خارج المنزل، "وهذا النمط من السلوك يجعل هؤلاء الأطفال يظهرون عدوانا بسيطا داخل المنزل، وعدوانا شديدا أثناء تفاعلهم مع زملائهم في المدرسة.
وليتأكد باندورا من نتائج افتراضاته هذه قام في دراسة له بتوزيع أطفال إحدى مدارس رياض الأطفال على خمس مجموعات، تعرضت لملاحظة نماذج عدوانية مختلفة، حيث شاهدت المجموعة الأولى نموذجا إنسانيا حيا وراشدا وهو يقوم باستجابات عدوانية جسدية ولفظية نحو لعبة بلاستيكية بحجم الإنسان الطبيعي، وتعرضت المجموعة الثانية لمشاهدة للحوادث العدوانية ذاتها ولكن من خلال فيلم سينمائي، أما المجموعة الثالثة فقد تعرضت لمشاهدة الحوادث العدوانية ذاتها ولكن من خلال فيلم كرتوني، واستخدمت المجموعة الرابعة كمجموعة ضابطة حيث لم تتعرض لمشاهدة أي نماذج عدوانية، في حين تعرضت المجموعة الخامسة لمشاهدة نموذج إنساني مسالم وغير عدواني، وبعد إجراء المعالجة وعرض النماذج المختلفة على أفراد مجموعات المعالجة جميعها، تم وضع كل طفل من أطفال هذه المجموعات في وضع مشابه للوضع الذي لاحظ فيه سلوك النموذج، وبالتالي قام عدد من الملاحظين بملاحظة سلوك الأطفال عبر زجاج النافذة في اتجاه واحد، وقاموا بتسجيل الاستجابات العدوانية الجسدية واللفظية التي قام بها الأطفال في المجموعات المختلفة، ومن ثم قاموا باستخراج متوسط الاستجابات لكل مجموعة على حدة، حيث بلغ متوسط الاستجابات العدوانية للمجموعة الأولى 183 استجابة، والثانية 29 استجابة، والثالثة 198 استجابة، والرابعة 52 استجابة والخامسة 42 استجابة، وقد أظهرت نتائج هذه الدراسة أن متوسط الاستجابات العدوانية للمجموعات الثلاث الأولى التي تعرضت للنماذج العدوانية، يفوق كثيرا متوسط استجابات المجموعة الرابعة الضابطة التي لم تتعرض لمشاهدة النموذج ، كما بينت الدراسة أن متوسط استجابات المجموعة الخامسة التي تعرضت للنموذج المسالم غير العدواني أقل من متوسط استجابات المجموعة الرابعة.[2،ص247]
من خلال الدراسة التي قام بها "ألبرت باندورا" نستنتج أن هناك علاقة كبيرة بين مشاهدة السلوك العنيف وتقليده من خلال مشاهدة نماذج من هذا السلوك إما عبر الوالدين أو جماعة الرفاق أو البرامج التلفزيون والتي تمثل كلها للطفل رمز أسمى وأعلى مرتبة منه وبالتالي يجب تقليده وتعلمه حيث يتعلم الأطفال من الأشخاص الذين هم في نظره يحتلون مراكز وأدوار أعلى منه، غير أننا نجد العلامة عبد الرحمن ابن خلدون قد سبقه إلى تلك الفكرة بحوالي ستة قرون حين قال: "المغلوب مولع بتقليد الغالب".
3.دور الإعلام في التنشئة الاجتماعية السوية:
يولي العديد من المهتمين والمتخصصين في مجالات التربية والتعليم بالآثار السلبية المحتملة للإعلام بالخصوص الإذاعة والتلفزيون وتأثيرها على الأطفال والشباب بالذات، إلا أنه لا يمكن إغفال الجوانب الإيجابية التي تحققها وسائل الإعلام وذلك عبر البرامج الملتزمة في كافة حقول الترفيه والتوجيه والمعرفة، بغض النظر عما يقال عن اهتمام الناشئة بما توفره وسائل الإعلام على حساب التحصيل العلمي، إلا أن المحصلة الإجمالية لثقافة الطفل في عصر التلفزيون قد تفوق في النوعية والحجم عصر ما قبله.
من المعلوم أن الإعلام يخاطب عقول الجماهير لذلك يعتبر وسيلة أساسية لنشر الثقافة وتنمية الفكر، كما يعمل الإعلام على إيصال الأخبار والمعلومات للجماهير بهدف زيادة المعرفة وتشجيع التعلم واكتساب المعارف والمهارات والحصول على معلومات وخبرات جديدة تساعد على الارتقاء بثقافة الفرد والمجتمع، ومن هنا يمكن القول أن الإعلام يقوم بمهمة ثقافية جليلة تتمثل في نشر الأفكار المتقدمة والمعلومات الحديثة والتقدم العلمي والتكنولوجي بالإضافة إلى التعليم ومحو الأمية ونقل التراث الثقافي عبر الأجيال وغرس القيم الاجتماعية والوطنية النبيلة.
وبالتالي تتحمل وسائل الإعلام المختلفة من تلفاز وإذاعة وصحافة ومسرح مسؤولية أساسية وكبيرة في إذكاء وتنمية الشعور لدى الأفراد بالانتماء إلى بلده ووطنه ، وحب هذا الوطن والعمل على إعلاء شأنه بين الدول الأخرى، ويتأتى ذلك عن طريق بث البرامج والأفلام الوثائقية والمسلسلات التي تبين تاريخ الوطن وما يضمه بين جنباته من معالم تاريخية ودينية، وعن طريق تنمية حب الوطن وغرس القيم الوطنية في أفراد المجتمع فإن ذلك يحد بشكل كبير من انتشار الجرائم خاصة تلك الموجه إلى الممتلكات العامة[6،ص166].
و تشير الدراسات والأبحاث العلمية في علم الاجتماع الجريمة إلى أن هناك علاقة متفاعلة بين وسائل الضبط الاجتماعي وظاهرتي الجريمة والجنوح [7،ص106]ومن أكثر الوسائل فعالية للضبط هي وسيلة الضبط الاختياري التي يفرضها بعض الأفراد على أنفسنهم وهذا من خلال التوعية بمخاطر السلوكات المنحرفة في المجتمع والرسائل التي تمررها وسائل الإعلام إلى المجتمع بضرورة الابتعاد عن الممارسات السلوكية التي تضر بالأفراد والمجتمع، وبهذه الطريقة يساهم الإعلام في عملية الضبط الاجتماعي باعتباره أهم الوسائل الناجعة في الوقاية من الجريمة والانحراف.
3.دور وسائل الإعلام في نشر الوعي الأمني:
يعرف الوعي الأمني على أنه " مجموعة العمليات المتكاملة التي تقوم بها أجهزة ووسائل الإعلام المتخصصة من أجل تحقيق أكبر قدر من التوازن الاجتماعي بغية المحافظة على أمن الفرد وسلامته وسلامة الجماعة والمجتمع ( الصباح 1987، ص83)، وعليه فإن دور الإعلام الأمني يتحدد بمدى مشاركته في الحفاظ على أمن واستقرار المجتمع. أما الوعي الأمني فنقصد به نشر التوعية بضرورة الأمن ومكافحة الجريمة والوقاية من الانحراف والتعريف بجهود أجهزة الأمن المختلفة والعمل البناء الذي تقوم به لصالح المجتمع وخدمة النظام العام.
الوعي الأمني في الحقيقة يبدأ غرسه من الأسرة ثم المدرسة ثم أجهزة الأمن والإعلام، وتلعب الأجهزة الأمنية دورا كبيرا في بلورة هذا الدور وتوفير المعلومات إلى أجهزة الإعلام والإعلاميين ليستطيعوا القيام بدورهم، فإذا لم تتوفر لديهم المعلومات الكافية فلن تكون مساهمتهم مجدية في نشر الوعي الأمني، لأن الوعي الأمني لا يتحقق إلا من خلال معرفة المجتمع لطابع الجريمة وظروف نشوئها والأطراف الفاعلة فيها وأماكن انتشارها وعوامل تفشيها حتى تتخذ كافة التدابير والإجراءات للوقاية منها أو الحد من انتشارها وهنا يأتي دور الإعلام في نشر هذه المعلومات الموجودة عند أجهزة الأمن وإيصالها إلى المجتمع لتوعيته بمخاطرها. وعندما يتم ذلك فإننا نكون قد قمنا بحل جزء أساسي من المشكلة بحيث يتحول المواطن العادي مهما كان دوره أو موقعه إلى رجل أمن.
ونلاحظ في الميثاق الإذاعي العربي الذي صادقت عليه الجمعية العامة لإتحاد الإذاعات العربية سنة 1980 بعمان الدعوة إلى توطيد الأمن ونشره سواء كان هذا الأمن بمفهومه الشامل أو كان بمفهومه الاصطلاحي، ومن أهم ما نص عليه هذا الميثاق:
تعرض برامجنا الجريمة على أنها أمر غير مشروع وغير مقبول في المجتمع، ولا يسمح إطلاقا بتناول الجرائم الجنسية، ولا تذاع وسائل الجريمة بطريقة تؤدي إلى محاكاتها ولا يفصح عن الأشخاص مرتكبي الجرائم إلا إذا كان ذلك يساعد على تنفيذ القانون أو يخدم المصلحة العامة.
كما أكد وزراء الداخلية العرب في الإستراتيجية الأمنية العربية الثانية ضرورة تكثيف استخدام وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة في إيجاد وعي عام ضد التيارات الفكرية الأخرى، وترسيخ القناعة بضرورة التمسك بالقيم الروحية والأخلاقية والتربوية المثلى. كما طالبت الإستراتيجية بفرض رقابة دقيقة على الإذاعة والتلفاز للحيلولة دون استخدام هذه الوسائل لنشر ما يخل بالأخلاق والقيم الاجتماعية للدول العربية.
ورغم أن هيئات الإذاعة والتلفاز في الوطن العربي خاصة الوطنية منها تقوم بتقديم أشرطة وبرامج تعريفية بجهود أجهزة الأمن لا سيما في المناسبات والأيام الإعلامية (يوم الشرطة) (أسبوع الشرطة) (شهر المرور) فإن الهدف من ذلك ليس فقط التعريف بجهود أجهزة الأمن للتصدي للجريمة بل إن الغرض منها هو توعية المواطنين بمخاطر الجرائم المنتشرة في المجتمع، ومن أهم البرامج التي أثبتت فاعليتها حملات الوعي العام بمخاطر الجريمة وأضرارها وبمختلف الاحتياطات الواجب اتخاذها لسد السبل على ارتكابها وكذا الحث على الإبلاغ عنها قبل وقوعها.إضافة إلى ذلك هناك التوعية الوقائية من جرائم الاعتداء على النفس أو العرض وتشمل التوعية بهذه الجرائم توجيه الضحية وإرشادها إلى ما تحتاجه من رعاية صحية ونفسية، وكثيرا ما ساهمت التوعية الأمنية لدى الجمهور في القبض على المجرم وبالتالي مكافحة الجريمة.
إن وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري تستطيع دون شك أن تلعب دورا ملموسا في عملية نشر الوعي الأمني لدى المواطنين وذلك سواء عبر الصورة المرئية أو الكلمة المسموعة والمكتوبة لذلك فإن من أهم واجبات الأجهزة الأمنية هو العمل على نشر التوعية بضرورة المحافظة على الأمن وتجسيد القيم الاجتماعية الإيجابية في المجتمع مثل الأمانة والأخلاق الحميدة وخدمة المجتمع والمواطنة الصالحة
4.دور الإذاعة والتلفزيون في التصدي لثقافة الجريمة:
لا شك أن البث التلفزيوني العالمي أصبح اليوم حقيقة ملموسة واستطاع أن يجعل من العالم قرية صغيرة، بل تطور البث التلفزيوني المباشر بحيث وصل إلى كل مكان في العالم وصار داخل كل بيت، وبالتالي صار تأثيره على أفراد المجتمع بصورة عامة وعلى الشباب أو الناشئة بصورة خاصة حتى صار يلقب بالأب الثالث للطفل، غير أنه من المؤسف أن أكبر القوى الإعلامية المؤثرة والمسيطرة على العالم هي قوى الإعلام الأمريكي والإعلام الأوربي والتي غالبا ما تنقل إلينا ثقافة الجريمة والسلوك الانحرافي، ومن هنا فإن كل دولة تريد أن تحافظ على شخصيتها الثقافية و بيئتها الاجتماعية، فأوربا بادرت بعقد عدة مؤتمرات درست فيها آثار الأقمار التلفزيونية على أجيالها، واليابان أخذت تدرس أبعاد هذا الغزو على ثقافتها وقيمها وتفكير أبنائها وهكذا يجب أن تفعل الدول العربية والإسلامية خاصة وأن التأثير بالنسبة لنا سيكون في اتجاه واحد حيث نستقبل ونتأثر دون أن يكون لنا بديل أو تأثير مزدوج، فالفجوة بيننا وبينهم كبيرة وعميقة، وقيمنا متباينة في كثير من الأحيان، وتربيتنا مختلفة، ومن هنا تأتي خطورة البث التلفزيوني القادم، والذي لم ندري بعد طرق التصدي له ومن هنا أصبح واضحا مدى أهمية وسائل الإعلام في التصدي إلى الغزو الثقافي وثقافة الجريمة عن طريق تقديم البديل المناسب وتشجيع الإعلام الداخلي ليصل إلى مستوى يمكنه من مواجهة الإعلام الخارجي المفروض علينا.
وسائل الإعلام وخاصة التي تتجسد في الراديو والتلفزيون تعد من أهم الوسائل التي تؤثر في شخصية وقيم وأفكار وممارسات الشباب، وتستطيع هذه الوسائل من خلال برامجها المدروسة والهادفة أن ملئ أوقات الفراغ عند الشباب وتسليحهم ثقافيا وتقويم سلوكهم وبناء شخصياتهم بناءا قويا وحمايتهم من أخطار الغزو الثقافي وثقافة الجريمة، غير أن وسائل الإعلام هذه في معظم الأقطار العربية تعاني من بعض المشكلات والصعوبات التي تجعل برامجها دون المستوى المطلوب وبالتالي تصبح غير قادرة على مواجهة حملات الغزو الثقافي والرد عليها والتصدي لثقافة الجريمة، ومن أهم المشاكل التي تعاني منها وسائل الإعلام العربية نجد:
عدم إدراك ووعي العديد من وسائل الإعلام العربية لطبيعة وخطورة الإعلام المضاد الذي تتعرض له الأقطار العربية.
اعتماد وسائل الإعلام العربية على وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الأجنبية المشبعة بالأفكار والقيم والممارسات المخالفة لطموحات وأهداف الأمة العربية وذلك بنسبة تصل إلى 70% من برامجها.
ضعف إنتاجية وسائل الإعلام العربية في الرد على البرامج الدعائية والمغرضة التي تبثها وسائل الإعلام الغربية ضد قيم ومبادئ وأخلاق الشباب العربي.
كما نلاحظ من خلال البرامج والمسلسلات والأفلام التي تعرضها التلفزيونات عادة ما تكون مليئة بحوادث مثيرة كالاحتيال، التزوير، السرقة، الإدمان على الكحول والمخدرات والخيانة والنميمة والقتل وهي ترسخ في ذهن المشاهد مجموعة مفاهيم وقيم أبسطها أن المحتال والمزور والمجرم هو البطل الناجح بينما الضحية هو إنسان ساذج ويسهل خداعه والنيل منه ويبدو ذلك حتى في برامج الأطفال وصور الكرتون حيث تتكرر مثل هذه الصور وهذا ما يسمى بثقافة الجريمة لأن مثل هذه الصور والمشاهد ترسخ في ذهن الأطفال والشباب فنون مختلفة من الجريمة والعنف والانحراف.[8،ص328]
ومن المؤكد أن كل إجراءات الحذر والمنع والرقابة لن تكون ذات جدوى، لأن البث التلفزيوني أصبح مثل البث الإذاعي تماما بسبب هذه القفزات التكنولوجية السريعة التي نعيشها اليوم، والتي تسعى إلى تحويل العالم كما يقولون إلى قرية صغيرة أضف إلى ذلك أن البث التلفزيوني دفع الناس إلى حالة من الإدمان التلفزيوني كما يسميه الدكتور عدنان الدوري في بحثه عن "العنف والإدمان" لأن الناس أصبحوا لا يطيقون الابتعاد عن هذا الجهاز أو مجرد الاستغناء عنه، ففي الولايات المتحدة الأمريكية قدر عدد ساعات المشاهد على المستوى الوطني بست ساعات وفي دراسة أجريت حول مشاهدة التلفاز في المملكة العربية السعودية سنة 1976 وجد أن معدل المشاهدة بلغ حوالي الساعتين، وفي عام 1986 أوضحت دراسة علي النجعي أن هذه النسبة ارتفعت إلى الساعتين والنصف ثم زادت إلى معدل ثلاث ساعات في اليوم، ولهذا السبب جاء في الإستراتيجية الأمنية العربية التي أقرها مجلس وزراء الداخلية العرب في دورة انعقاده الثاني ما يلي: "وجوب تحصين المجتمع العربي ضد الجريمة بالقيم الأخلاقية والتربية النابعة من أحكام الشريعة الإسلامية بما يعصم هذا المجتمع من زلل الانحراف، ويحول دون تأثره بالتيارات الفكرية المشبوهة والأنماط السلوكية المنحرفة الوافدة".
5. متطلبات الدور الإعلامي في الوقاية من الجريمة والانحراف:
تقوم أجهزة الشرطة والأمن بمكافحة الجريمة وتحقيق الأمن بمفهومه الشامل نظرا لما طرأ على جوانب الحياة من تعقيدات وتغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية الأمر الذي يتطلب تضافر جهود كل الأجهزة للوقوف في وجه الجريمة ومكافحتها، ولا شك أن الإعلام لما له من قوة تأثير فاعل وانتشار واسع بين كافة أطياف المجتمع فإنه يمكن أن يكون طرف فاعلا في تطبيق سياسة الأمن وفي عمليات الوقاية من الجريمة والانحراف الذي بات يؤرق الأفراد والمجتمعات.
فالإعلام يستطيع أن يمارس دوره الأمني سواء عن طريق تلمس ورصد الظواهر التي قد تتسلل إلى المجتمع وتدفع إلى نشوء الشخصية الإجرامية، أو عن طريق تبني مواد وبرامج تهدف إلى تبصير الجماهير بمخاطر بعض العادات والتقاليد الغربية التي تفسد قيمنا ومبادئنا الإسلامية والثقافية والاجتماعية حتى لا تقع في الانحراف والإجرام الأمر الذي يساهم في الوقاية من الجريمة والانحراف، أو التأثير على سلوك الجماهير من أجل التعاون مع أجهزة الأمن والشرطة في ضبط الجريمة من خلال حث المواطن على الإبلاغ عن الجريمة والإدلاء بالشهادة والحفاظ على آثار الجريمة (مسرح الجريمة) باعتباره مصدرا للاستدلال على المجرم. إضافة إلى ذلك يمكن أن يساهم الإعلام في جوانب الإصلاح والرعاية عن طريق تهيئة المجتمع لتقبل المنحرف بعد إصلاح سلوكه ليصبح مواطنا صالحا وعضوا فاعلا في المجتمع، وكذلك غرس الثقافة القانونية والجزائية المقررة لمختلف أنواع الجرائم.



الخاتمة:
يتضح مما سبق أن لأجهزة الإعلام دور فعال في التأثير على المجتمع باعتبارها عنصر أساسيا من حياتنا، له قوة التأثير على المجتمع إما بشكل إيجابي أو سلبي من خلال نقل الثقافات التي تدعو إلى تبني السلوكات الإجرامية والمنحرفة وتقليد ما تبثه من برامج تدعوا إلى الممارسات التي تتنافى مع تعاليمنا الإسلامية والثقافية وعاداتنا وتقاليدنا الاجتماعية التي نعتز بها، وغالبا ما تكون هذه البرامج موجه إلى مجتمعاتنا يكون الهدف منها زعزعة النظام الاجتماعي القائم عن طريق غرس في أفرده السلوكات التي تضر بالأفراد قبل المجتمعات ومسخ الهوية الثقافية والقومية الوطنية و يكون ذلك في قالب دراماتيكي أو براغماتي من خلال تقديم الطرق والوسائل خاصة الغير مشروعة في الحصول على المال والسعادة والشهرة ... فتتفشى في المجتمع الأنانية والاحتيال والسرقة ومختلف أنواع الجرائم والانحرافات كالقتل العمدي والانتحار وتخريب الممتلكات العامة وهذا من شأنه أن يفسد المجتمع ويزعزعه في حين تغيب أو تكاد تنعدم البرامج التي تقدم خدمات علمية أو تكنولوجية تساهم في التثقيف والتوعية ونقل المعلومات والتكنولوجيا إلى مجتمعاتنا فلو وضعنا مقارنة بسيطة بين البرامج التكنولوجية والعلمية مع برامج الأفلام والمسلسلات الغربية لوجدنا الفارق واحد إلى مئة ومنه تتضح أهداف الإعلام الغربي.
ومنه وجب على الإعلام العربي والجزائري أن يتصدى إلى هذه البرامج من خلال بث البرامج المنافسة والخالية من المشاهد التي تبث الممارسات الإجرامية والانحرافية بنفس الجودة حتى تصرف الأفراد عن البرامج الغربية، إضافة إلى توعية المجتمع بمخاطر وآثار الإعلام الغربي الممنهج خاصة على الأطفال والشباب.
ومن جانب آخر على الإعلام العربي أن يحافظ على الهوية العربية الإسلامية من خلال بث البرامج الإسلامية والترفيهية من مسابقات وإعلام العمل على نقل التكنولوجيا و وتشجيع الشباب على طلب العلم والابتكار وملئ أوقات الفراغ في العمل الخيري والتطوعي عن طريق برامج إذاعية وتلفزيونية حتى ينصرف عن السلوكات المضرة بذاته ومجتمعه كالجريمة والانحراف.
أما الدور الثالث الذي على الإعلام أن يلعبه هو المشاركة في تعزيز الأمن داخل المجتمع والوقاية من الجريمة والانحراف من خلال بث البرامج التي تبين مخاطر بعض الآفات المنتشرة في المجتمع والتوعية ومخاطرها وأسباب انتشارها وانعكاساتها على أمن المجتمع واقتصاد الدولة وتبيين جهود أجهزة الأمن في مواجهتها وحث المواطنين على المشاركة في مكافحتها والوقاية منها، وبهذا يكون الإعلام قد لعب دوره كاملا في الوقاية من الجرائم وإلا سيكون طرفا في نشرها وتهديد أمن المجتمعات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق